جرأة فنية امتلكها الفنان الراحل سيد درويش ساهمت في أن يبقى إبداعه الموسيقى، ليس فقط عابرًا لأكثر من قرن من الزمان، لكنه أيضًا مؤثر في أجيال كثيرة جاءت بعده، فالموسيقار الملقّب بـ”فنان الشعب” الذي تحلُّ هذه الأيام ذكرى رحيله (15 سبتمبر 1923م) امتلك شجاعة فنية فطرية غير مصطنعة جعلته على رأس قائمة أبرز المجدّدين في الموسيقى العربية.
تقدم مسيرة “فنان الشعب” سيد درويش الفنية دروسًا واضحة لكل موهبة شابة تريد التعبير عن نفسها، بشرط امتلاك الموهبة وتميزها أيضًا، إذ بفضلها تغلّب على جميع العقبات التي واجهته، سواء نشأته وسط الاحتلال الإنجليزي وقمعه لألحانه الثورية، أو عمره الفني القصير الذي لم يتجاوز 7 سنوات، حتى فارقت روحه الحياة.
نشأة سيد درويش لم تكن سهلة أيضًا، إذ ولد يوم 17 مارس 1982 في حي كوم الدكة بالإسكندرية، وسط أسرة متواضعة، وتوفي والده مبكرًا، ليواجه الأزمة الأولى في حياته، وسرعان ما واجه أزمة تالية بعد رفض العائلة اتجاهه للفن، لكن “درويش” كان يجد في الألحان والغناء وسيلته للهروب من واقع مؤلم، مرددًا مع بعض من أصدقائه أغنيات من تلحين الشيخ سلامة حجازي والشيخ حسن الأزهري، قبل أن يتجه للغناء في المقاهي المنتشرة في ذلك الوقت التي كانت تشهد فقرات فنية مختلفة.
سيد درويش
لم يكتف الفنان الراحل بالعمل البسيط في المقاهي، بل اتجه إلى المسرح وكوّن ثنائية فنية مع بديع خيري، وسرعان ما تهافتت عليه الفرق المسرحية المختلفة لكي يضع ألحانًا لأغنياتها، ومنها فرق نجيب الريحاني، وعلى الكسار وجورج أبيض، ومن أشهر ألحانه وقتها “يا زمان الخلطبيط”، و”يحميكى يا شابه لشبابك”، و”على قد الليل ما يطول”، و”يقطع فلان على علان” و”عشان ما نعلا ونعلا”، كما أسّس فرقة “سيد درويش” المسرحية وأنتج مسرحتين هما “شهرزاد”، و”البروكة”.
لم تشبه ألحان سيد درويش أحدًا، لذا كان الجميع يرغب في التعاون معه، كما أن جرأته تخطت توقعات معاصريه، وحول ذلك يقول الفنان والملحن المسرحي زياد رحباني في لقاء تلفزيوني: “لنا أن نتخيل سيد درويش يلحن جملة تقول “الديك بيدن كوكو كوكو”، لتقف نجمة بحجم المطربة فيروز تغني على المسرح “كوكو كوكو” فهو هنا يشبه في موسيقاه وإبداعه ما فعله المؤلف الموسيقي النمساوي موزارت أحد أبرز عباقرة الموسيقى في التاريخ”.
لكن لم تكن الحياة وردية تمامًا أمام هذه الجرأة الفنية التي امتلكها سيد درويش، إذ قوبلت بالرفض من المخلصين للموسيقى القديمة التقليدية، خصوصًا في بدايته الفنية، لكنه “عافر” كثيرًا حتى جعل للملحن المصري الكيان المحترم، حسبما يقول موسيقار الأجيال الراحل محمد عبد الوهاب في لقاء إعلامي قديم، مشيرًا إلى أنه قبل سيد درويش لم يكن هناك هذا الاهتمام بالملحن المصري، وجعل الجمهور يلتفت إلى دوره وأهميته ويحاسبه أيضًا، وألا يكون الاهتمام فقط بالمطرب.
سيد درويش
ولفت “عبد الوهاب” الانتباه إلى أن سيد درويش أول من عبّر عن الكلمة بألحان تتفق مع معناها، فاللحن الحزين للكلمة الحزينة، وهكذا بالنسبة للكلمات السعيدة أو التي تتحدث عن مشاعر الحب، موضحًا أن الموسيقار الراحل عندما كان بصدد وضع لحن السقايين “يعوض الله” كان يحرص على أن يسير معهم ويسمع منهم حتى يجد لحنًا يناسبهم.
بعود مكسور اشتراه بأموال قليلة ادخرها من العمل في طائفة المعمار، وبكتاب أقل ثمنًا، تعلم سيد درويش الموسيقى، ولم يكن يدرى أنه بقراره هذا، سيعلّم الكثير من الأجيال بعده حتى التي لم تعاصره، ما دعا الموسيقار سليم سحاب لوصفه بـ”الظاهرة الموسيقية”، في تصريحات سابقة لـ”القاهرة الإخبارية” مشيرًا إلى أنه مدرسة فنية تلخص ما بعده، ومؤسس الموسيقى العربية في القرن العشرين.
ولا يزال نجوم الغناء حتى وقتنا هذا يرددون في حفلاتهم أغنيات سيد درويش، ومنها “أنا هويت”، و”زوروني كل سنة مرة”، و”خفيف الروح”، و”هز الهلال يا سيد”، و”يا بلح زغلول”، وغيرها من الأغنيات والألحان التي سبق بها جيله وأصبحت منبعًا فنيًا يستقى منه الأجيال التالية.