إميل أمين يكتب: فرنسا.. وحلف دولي جديد   

كتاب و أراء
159
0

تبدو القارة الأوربية في مواجهة علامة إستفهام مثيرة حول مستقبلها، لا سيما في ظل العديد من التحولات والتغيرات، بل والتحديات الجوهرية التي تتفاقم يوما تلو الآخر، ما جعل ويجعل الكثير من المراقبين الدوليين يتساءلون: هل أوروبا  والأوروبيون في مأزق حقيقي؟

يوما تلو الآخر يتبدى للأوربيين أن الدوران في فلك الولايات المتحدة الأمريكية، مرة وإلى  الأبد، أمر لن يكتب له الاستمرار إلى ما لا نهاية، وعلى غير المصدق أن يراجع ما أوردته وكالة بلومبرغ الدولية، غداة قمة السبع الأخيرة في ألمانيا، من حديث عن شكوك الأوروبيين في المضي قدما وراء الرئيس الأمريكي جو بايدن، وسياساته، على الرغم من اختلاف توجهاته عن سلفه دونالد ترامب، ومحاولته إصلاح ذات البين بين ضفتي الأطلسي.

يشعر الأوربيون اليوم بأن ما لدى الولايات المتحدة الأمريكية من إشكاليات جوهرية عميقة، أمر حكما سوف يشغلها كثيرا جدا عن التعاون الفعال مع القارة الأوربية، لا سيما وأن واشنطن منشغلة للغاية  في تكوين  وبلورة  أحلاف سياسية وعسكرية في منطقة الإندو باسيفيك، هناك حيث التحدي الحقيقي للولايات المتحدة، متمثلا في المواجهة مع الصين الهدف الاستراتيجي لأمريكا، حتى وإن طفت روسيا على  السطح، إذ ستبقى الهدف التكيتكي في كل الأحوال.

يتساءل الأوربيون اليوم، وبنوع خاص بعد ما جرى من هجوم روسي على أوكرانيا، وما يمكن أن تأتي به المقادير عما قريب، إذا استمرت واشنطن في وضع خطط المواجهة المتصاعدة مع القيصر: “هل لنا مصلحة بعينها في كسب عداوة  روسيا إلى ما لانهاية، عطفا على إيقاظ مشاعر العداوات التاريخية النائمة بين روسيا وأوروبا؟

الشاهد أن هناك طغمة واسعة من المراقبين والمحللين السياسيين الأوربيين تميل إلى التفكير المعمق في الطرح الأوراسي، والذي وضع لبناته الزعيم الفرنسي الأشهر شارل ديغول، عبر رؤية إستشرافية لبناء وحدة عضوية من الجغرافيا  بين آسيا وأوروبا.

عطفا على  ذلك، يمكن القطع أنه وقبل انتشار جائحة كوفيد -19، وانكشاف هشاشة الصين من الداخل، بعدما دارت ووارت  ما جرى من تسرب للفيروس الشائه، كانت الصين مرشحة بقوة وعمق، للدخول في تحالف ما مع أوروبا، بل إن المرء لا  يماري إن قال إن هناك دولا أوربية بعينها، كانت عرضة للوقوع في براثن الفخ الصيني، كما يراه الأمريكيون، لا سيما فخاخ الديون التي تجيد نصبها، وقد كانت إيطاليا مرشحة لأن تفقد تواصلها العضوي مع القارة الأوروبية لصالح الصين.

تجد أوروبا نفسها اليوم في مآزق وليس مأزق واحد، فقد فقدت الثقة في روسيا – بوتين، وإلى أجل غير مسمى، أجل لا يدرك الأوروبيون ما إذا كان سينتهي بنهاية حكم بوتين، أم أن هناك من السلافيين الجدد إن جاز التعبير، من يود السعي في ذات الدرب مرة أخرى .

وبنفس القدر، يمكن القول إن الأوروبيين لم تعد ولن تعد ثقتهم في الصين والصينيين عالية القدر، وبخاصة في ظل صحوة  مخيفة مرة أخرى للفيروس القاتل كوفيد، عبر تحورات جديدة،  يمكنها أن تعيد سيرة الإغلاق على أبواب الشتاء مرة أخرى، الأمر الذي يجعل القارة العجوز، واقعة بين مطرقة القيصر وسندان الجائحة.

هل أوروبا في حاجة هيكلية جديدة، تتجاوز طرح الاتحاد الأوروبي، ذاك الذي تعرض لضربة قاسية من خلال خروج بريطانيا منه، ومع وقع التراجع الاقتصادي لألمانيا، والتي كانت وحتى وقت قريب تعد قاطرة أوروبا وقلبها النابض اقتصاديا؟.

في غالب الأمر ذلك كذلك، ومن الواضح أن الصوت الفرنسي هو الأعلى  في عموم القارة الأوروبية، وقد ارتفع بالفعل قبل تفشي الجائحة من جهة، أو غزو أوكرانيا من جهة ثانية.

قبل أن يكمل دونالد ترامب ولايته اليتيمة، ورفضا لضغوطاته على الأوروبيين الخاصة بزيادة مساهماتهم في الناتو، وبنسب عالية من الناتج القومي الإجمالي لكل دولة، اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بناء قوة أوروبية عسكرية موحدة، تكون درعا وسيفا للأوروبيين في ظروف الطوارئ، وحتى إن لم تكن بديلا عن حلف الناتو، لكن على الأقل تخفف الضغط الأمريكي على الأوروبيين، وتعطي متنفسا بعيدا عن غطرسة العم سام.

تبدو أوروبا اليوم بقيادة فرنسا، العقل السياسي المفكر، على  درب آخر، بعيدا عن الولايات المتحدة الأمريكية من جهة،  وغير متماس مع روسيا أو الصين.

تبدت النوايا الأوربية مؤخرا من خلال دعوة ماكرون في ختام مؤتمر مستقبل أوروبا، أوائل مايو آيار الماضي، إلى إنشاء منظمة سياسية أوروبية جديدة، منظمة يكون هدفها خلق كيان سياسي أوروبي وسط بين الناتو ووارسو إن جاز التعبير، الأمر الذي يمكن أن يعد إرهاصات مولد قطب دولي جديد، في ظل أزمة الحرب الباردة  المتجددة التي يشهدها عالمنا المعاصر،  كيان يمكن أن يضم أوكرانيا وجورجيا، وربما ينفتح لاحقا على  عدد آخر من الجمهوريات السوفيتية السابقة، عطفا على  محاولة إدماج بريطانيا مرة جديدة، ضمن أطر قطبية أوسع  من الاتحاد الأوروبي.

قدم ماكرون المقترح خلال تعقيبه على إمكانية انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، مشيرا إلى أن عملية ضمها ستستغرق عقودا، لذا يصبح تأسيس مجموعة أوروبية جديدة  فرصة لإيجاد مساحة للتعاون السياسي والأمني بين دول أوروبا.

هل هناك من يعضد توجه ماكرون ضمن حدود القارة الأوربية؟

المثير أن المستشار الألماني أولاف شولتس، رحب ترحيبا واسعا بطرح ماكرون، وأبدى سعادته البالغة، معتبرا قرارات فرنسا تجاه أوروبا دفعة جديدة وقوية للقارة.

يمكن لأي محلل سياسي محقق ومدقق أن يكتشف مشاهد تحولات سريعة على سطح القارة الأوروبية، ومنها نهاية زمن الحياد التاريخي لدول حافظت على مواقعها ومواضعها لعقود طوال، كما الحال مع فنلندا والسويد، وقد تصحو شعوب القارة العجوز على المزيد من الدول الراغبة للانضمام لهذا الكيان الجديد.

هل يضحى الحلف الوليد حال ظهوره للنور، حلا مؤكدا لمآزق أوروبا الآنية؟.